فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد بلاغية:

قال في إشارات الإعجاز:
{وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَقُولُ امَنَّا بِالله وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤمِنِينَ}.
وجه النظم:
أنه كما يُعطف المفرد على المفرد للاشتراك في الحكم، والجملة على الجملة للاتحاد في المقصد؛ كذلك قد تُعطف القصة على القصة للتناسب في الغرض. ومن الأخير عطف قصة المنافقين على الكافرين. أي عطف ملخص اثنتي عشرة آية على مآل آيتين؛ إذ لما افتتح التنزيل بثناء ذلك الكتاب فاستتبع ثمرات ثنائه من مدح المؤمنين، فاستردف ذم أضدادهم بسر انما تعرف الأشياء بأضدادها ولتتم حكمة الإرشاد، ناسَبَ تعقيب المنافقين تكميلا للأقسام.
إن قلت: لِمَ أوجز في حق الكافرين كفرًا محضًا بآيتين وأطنب في النفاق باثنتي عشرة آية؟
قيل لك: لنكات؛ منها: أن العدوّ إذا لم يُعْرَف كان أضرَّ. وإذا كان مخنسًا كان أخبث. وإذا كان كذابًا كان أشد فسادًا. وإذا كان داخليًا كان أعظم ضررًا؛ إذ الداخلي يفتت الصلابة ويشتِّت القوة بخلاف الخارجي فإنه يتسبب لتشدد الصلابة العصبية. فأسفًا! إن جناية النفاق على الإسلام عظيمة جدًا. وما هذه المشوشية إلا منه. ولهذا أكثر القرآن من التشنيع عليهم.
ومنها: أن المنافق لاختلاطه بالمؤمنين يستأنس شيئًا فشيئًا، ويألف بالإيمان قليلا قليلا، ويستعد لأن يتنفر عن حال نفسه بسبب تقبيح أعماله وتشنيع حركاته؛ فتتقطر كلمة التوحيد من لسانه إلى قلبه.
ومنها: أن المنافق يزيد على الكفر جناياتٍ اُخَر كالاستهزاء والخداع والتدليس والحيلة والكذب والرياء.
ومنها: أن المنافق في الأغلب يكون من أهل الكتاب ومن أهل الجربزة الوهمية فيكون حيّالا دسّاسًا ذا ذكاء شيطانيّ، فالاطناب في حقه أعرق في البلاغة.
أما تحليل كلمات هذه الآية، فاعلم! أن مِن الناس خبر مقدم لمَن على وجه.
إن قلت: كون المنافق إنسانا بديهيٌّ....؟
قيل لك: إذا كان الحكم بديهيًا يكون الغرض واحدًا من لوازمه وهنا هو التعجيب. كأنه يقول كون المنافق الرذيل انسانًا عجيب؛ إذ الإنسان مكرّم، ليس من شأنه أن يتنزل إلى هذه الدركة من الخسة.
إن قلت: فَلِمَ قدّم؟
قيل لك: من شأن انشاء التعجب الصدارة وليتمركز النظر على صفة المبتدأ التي هي مناط الغرض وإلا لانتظر ومرّ إلى الخبر.
ثم أن عنوان الناس يترشح منه لطائف:
منها: أنه لم يفضحهم بالتعيين، بل سترهم تحت عنوان الناس إيماءً إلى أن سترهم وعدم كشف الحجاب عن وجوههم القبيحة أنسب بسياسة النبيّ عليه السلام؛ إذ لو فضحهم بالتشخيص لتوسوس المؤمنون؛ إذ لايُؤْمَن من دسائس النفس. والوسوسة تنجر إلى الخوف والخوف إلى الرياء والرياء إلى النفاق.. ولأنه لو شنّعهم بالتعيين لقيل أن النبي عليهِ السلام متردد لا يثق باتباعه.. ولأن بعضا من الفساد لو بقي تحت الحجاب لانطفأ شيئًا فشيئًا واجتهد صاحبُه في إخفائه ولو رُفع الحجاب- فبناءً على ما قيل «إذا لمْ تسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ».
لَيقول فليكن ما كان، ويأخذ في النشر ولا يبالي.
ومنها: أن التعبير ب {الناس} يشير إلى أنه مع قطع النظر عن سائر الصفات المنافية للنفاق فأعمّ الصفات أعني: الإنسان ية أيضًا منافية له؛ إذ الإنسان مكرم ليس من شأنه هذه الرَذالة.
ومنها: أنه رمز إلى أن النفاق لا يختص بطائفة ولا طبقة بل يوجد في نوع الإنسان أية طائفة كانت.
ومنها: أنه يُلَوِّح بأن النفاق يخلّ بحيثية كل من كان انسانًا فلابد أن يتحرك غضب الكل عليه، ويتوجه الكل إلى تحديده، لئلا ينتشر ذلك السمّ؛ كما يخلّ بناموس طائفة ويهيِّج غضبهم شناعةُ فرد منهم.
وأما {مَن يقول آمنا}.
فإن قلت: لِمَ افرد {يقول} وجمع {آمنا} مع أن المرجع واحد؟
قيل لك: فيه إشارة إلى لطافة ظريفة هي:
اظهار أن المتكلم مع الغير متكلم وحده ف {يقول} للتلفظ وحده و{آمنا} لأنه مع الغير في الحكم.. ثم أن هذا حكاية عن دعواهم ففي صورة الحكاية إشارة إلى رد المحكيّ بوجهين، كما أن في المحكيّ إشارة إلى قوته بجهتين؛ إذ {يقول} يرمز بمادته إلى أن قولهم ليس عن اعتقاد وفعل، بل يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.. وبصيغته يومئ إلى أن سبب استمرار مدافعتهم وادعائهم مراآة الناس لامحرك وجداني.. وفي الدعوى إيماء منهم بصيغة الماضي إلى: إنّا معاشر أهل الكتاب قد آمنا قبل فكيف لانؤمن الآن.. وفي لفظ نا رمز منهم إلى: انّا جماعة متحزبون لسنا كفرد يَكذِب أو يُكذَّب.
وأما {بالله وباليوم الآخر} فاعلم! أن للتنزيل أن يأخذ المحكيّ بعينه، أو يتصرف فيه بأخذ مآله، أو تلخيص عبارته: فعلى الأول ذكروا الأول والآخر من أركان الإيمان اظهارًا للقوي، ولما هو أقرب لأن يُقبَل منهم، وأشاروا إلى سلسلة الأركان بتكرار الباء مع القرب. وعلى الثاني بأن يكون كلامه تعالى؛ ففي ذكر القطبين فقط إشارة إلى أن أقوى ما يدّعونه أيضًا ليس بايمان؛ إذ ليس إيمانهم بهما على وجههما. وكرر الباء للتفاوت؛ إذ الإيمان بالله إيمان بوجوده ووحدته، وباليوم الآخر بحقيته ومجيئه كما مرّ.
وأما {وما هم بمؤمنين}.
فإن قلت: لِمَ لم يقل وما آمنوا الأشبه ب {آمنا}؟
قيل لك: لئلا يُتوهم التناقض صورة، ولئلا يرجع التكذيب إلى نفس {آمنا} الظاهر انشائيته المانعة من التكذيب. بل ليرجع النفي والتكذيب إلى الجملة الضمنية المستفادة من {آمنا} وهي فنحن مؤمنون.. وأيضا ليدل باسمية الجملة على دوام نفي الإيمان عنهم.
إن قلت: لِمَ لا يدل على نفي الدوام مع أن ما مقدم؟
قيل لك: أن النفي معنى الحرف الكثيف، والدوام معنى الهيئة الخفيفة، فالنفي أغمس وأقرب إلى الحكم.
إن قلت: ما نكتة الباء على خبر ما؟
قيل لك: ليدل على أنهم ليسوا ذواتًا أهلًا للايمان وإن آمنوا صورة، إذ فرقٌ بين ما زيد سخيا وما زيد بسخي؛ إذ الأول: لهوائية الذات، معناه: زيد لايسخو بالفعل وأن كان أهلا ومن نوع الكرماء. وأما الثاني: فمعناه زيد ليس بذاتٍ قابل للسماحة وليس من نوع الأسخياء وإن أحسن بالفعل. اهـ.

.تفسير الآية رقم (9):

قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)}.

.اللغة:

{يخادعون} الخداع: المكر، والاحتيال، وإظهار خلاف الباطن، وأصله الإخفاء ومنه سمى الدهر خادعًا لما يخفي من غوائله، وسمى المخدع مخدعا لتستر أصحاب المنزل فيه.
{مرض} المرض: السقم وهو ضد الصحة وقد يكون حسيا كمرض الجسم، أو معنويًا كمرض النفاق، ومرض الحسد والرياء، قال ابن فارس: المرض كل ما خرج به الإنسان عن حد الصحة من علة، أو نفاق، أو تقصير في أمر.
{تفسدوا} الفساد: العدول عن الاستقامة وهو ضد الصلاح.
{السفهاء} جمع سفيه وهو الجاهل، الضعيف الرأى، القليل المعرفة بمواضع المنافع والمضار، وأصل السفه: الخفة، والسفيه: الخفيف العقل. قال علماء اللغة: السفه: خفة وسخافة رأي، يقتضيان نقصان العقل والحلم يقابله.
{طغيانهم} الطغيان: مجاوزة الحد في كل شيء، ومنه قوله تعالى: {إنا لما طغى الماء} أي ارتفع وعلا وجاوز حده، والطاغية: الجبار العنيد.
{يعمهون} العمه: التحير والتردد في الشيء، يقال: عمه يعمه فهو عمه.
قال رؤبة:
أعمى الهدى بالحائرين العمه

قال الفخر الرازي: العمه مثل العمى، إلا أن العمى عام في البصر والرأي، والعمه في الرأي خاصة، وهو التردد والتحير، بحيث لا يدري أين يتوجه.
{اشتروا} حقيقة الاشتراء: الاستبدال، وأصله بذل الثمن لتحصيل الشيء المطلوب، والعرب تقول لمن استبدل شيئا بشئ اشتراه، قال الشاعر:
فإن تزعمينى كنت أجهل فيكم ** فإنى اشتريت الحلم بعدك بالجهل

{صم} جمع أصم وهو الذي لا يسمع.
{بكم} جمع أبكم وهو الأخرس الذي لا ينطق.
{عمي} جمع أعمى وهو الذي فقد بصره.
{صيب} الصيب: المطر الغزير مأخوذ من الصوب وهو النزول بشدة، قال الشاعر:
سقتك روايا المزن حيث تصوب

{الصواعق} جمع صاعقة وهى نار محرقة لا تمر بشيء إلا أتت عليه، مشتقة من الصعق وهو شدة الصوت.
{السماء} السماء في اللغة: كل ما علاك فأظلك، ومنه قيل لسقف البيت سماء، ويسمى المطر سماء لنزوله من السماء قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

{يخطف} الخطف: الأخذ بسرعة ومنه قوله تعالى: {إلا من خطف الخطفة} وسمى الطير خطافا لسرعته، والخاطف الذي يأخذ الشيء بسرعة شديدة. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال البقاعي:

وابتدئت قصتهم بالتنبيه على قلة عقولهم وخفة حلومهم من حيث أن محط حالهم أنهم يخادعون من لا يجوز عليه الخداع وأن الذي حملهم على ذلك أنهم ليس لهم نوع شعور ولا شيء من إدراك بقوله تعالى- جوابًا لسؤال من كأنه قال: فما قصدهم بإظهار الإيمان والإخبار عن أنفسهم بغير ما هي متصفة به مع معرفتهم بقبح الكذب وشناعته وفظاعته وبشاعته؟ {يُخادعون الله} أي يبالغون في معاملته هذه المعاملة بإبطان غير ما يظهرون مع ما له من الإحاطة بكل شيء، والخداع أصله الإخفاء والمفاعلة في أصلها للمبالغة لأن الفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده {والذين آمنوا} أي يعاملونهم تلك المعاملة، وأمره تعالى بإجراء أحكام الإسلام عليهم في الدنيا صورته صورة الخدع وكذا امتثال المؤمنين أمره تعالى فيهم.
قال الحرالي: وجاء بصيغة المفاعلة لمكان إحاطة علم الله بخداعهم ولم يقرأ غيره ولا ينبغي، والخداع إظهار خير يتوسل به إلى إبطان شر يؤول إليه أمر ذلك الخير المظهر. انتهى.
{وما يخدعون} أي بما يغرون به المؤمنين {إلا أنفسهم} يعني أن عقولهم لخباثتها إنما تسمى نفوسًا، والنفس قال الحرالي ما به ينفس المرء على غيره استبدادًا منه واكتفاء بموجود نفاسته على من سواه. انتهى.
وقراءة الحذف هذه لا تنافي قراءة يخادعون لأن المطلق لا يخالف المقيد بالمبالغة، وعبر هنا بصيغة المفاعلة لشعورهم كما قال الحرالي بفساد أحوالهم في بعض الأوقات ومن بعض الأشخاص وبصيغة المجرد لعمههم عن فساد أحوالهم في أكثر أوقاتهم وعمه عامتهم ولا يكون من الله سبحانه إلا بلفظ الخدع لأنهم لا يعلمون ما يخفى عنهم من أمره ولذلك جاء في آية النساء {يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء: 142]. انتهى.
{وما يشعرون} أي نوع شعور لإفراط جهلهم بأنهم لا يضرون غير أنفسهم لأن الله يعلم سرهم كما يعلم جهرهم.
وحذف متعلق بالشعور للتعميم والشعور كما قال الحرالي أول الإحساس بالعلم كأنه مبدأ إنباته قبل أن تكمل صورته تتميز. وانتهى. اهـ.

.قال الفخر:

اعلم أن الله تعالى ذكر من قبائح المنافقين أربعة أشياء:
أحدها: ما ذكره في هذه الآية، وهو أنهم {يخادعون الله والذين ءَامَنُوا} فيجب أن يعلم أولًا: ما المخادعة.
ثم ثانيًا: ما المراد، بمخادعة الله؟
وثالثًا: أنهم لماذا كانوا يخادعون الله؟
ورابعًا: أنه ما المراد بقوله وما يخدعون إلا أنفسهم؟. اهـ.

.قال القرطبي:

قال علماؤنا: معنى {يخادعون الله} أي يخادعونه عند أنفسهم وعلى ظنهم.
وقيل: قال ذلك لعملهم عمل المخادع.
وقيل: في الكلام حذف، تقديره: يخادعون رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ عن الحسن وغيره.
وجعل خداعهم لرسوله خداعًا له؛ لأنه دعاهم برسالته؛ وكذلك إذا خادعوا المؤمنين فقد خادعوا الله.
ومخادعتهم: ما أظهروه من الإيمان خلاف ما أبطنوه من الكفر، لَيحْقنوا دماءهم وأموالهم، ويظنون أنهم قد نجْوا وخدعوا؛ قاله جماعة من المتأوّلين.
وقال أهل اللغة: أصل الخدع في كلام العرب الفساد؛ حكاه ثعلب عن ابن الأعرابي.
وأنشد:
أبْيَضُ اللّونِ لذيذٌ طعْمُه ** طيِّبُ الرّيق إذا الرِّيقُ خَدَعْ

قلت: ف {يخادعون الله} على هذا، أي يفسدون إيمانهم وأعمالهم فيما بينهم وبين الله تعالى بالرياء.
وكذا جاء مفسَّرًا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم على ما يأتي.
وفي التنزيل: {يُرَاءُونَ النَّاسَ}.
وقيل: أصله الإخفاء؛ ومنه مخدع البيت الذي يحرز فيه الشيء؛ حكاه ابن فارس وغيره.
وتقول العرب: انخدع الضب في جُحره.
قوله تعالى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} نفي وإيجاب؛ أي ما تحلّ عاقبة الخدع إلا بهم.
ومن كلامهم: مَن خَدَع من لا يُخْدع فإنما يَخْدع نفسه.
وهذا صحيح؛ لأن الخداع إنما يكون مع من لا يعرف البواطن؛ وأما من عرف البواطن فمن دخل معه في الخداع فإنما يخدع نفسه.
ودلّ هذا على أن المنافقين لم يعرفوا الله إذ لو عرفوه لعرفوا أنه لا يخدع؛ وقد تقدّم من قوله عليه السلام أنه قال: «لا تخادع الله فإنه مَن يخادع الله يخدعه الله ونفسَه يخدع لو يشعر» قالوا: يا رسول الله، وكيف يُخَادَع اللَّهُ؟ قال: «تعمل بما أمرك الله به وتطلب به غيره» وسيأتي بيان الخدع من الله تعالى كيف هو عند قوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِئ بِهِمْ} [البقرة: 15]. اهـ.